فصل: فصل في التمذهب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وقال شيخ الإسلام

فصل

المنحرفون من أتباع الأئمة في الأصول والفروع، كبعض الخراسانيين من أهل جيلان وغيرهم المنتسبين إلى أحمد وغير أحمد‏:‏ انحرافهم أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ قول لم يقله الإمام ولا أحد من المعروفين من أصحابه بالعلم كما يقوله بعضهم من قدم روح بني آدم ونور الشمس والقمر والنيران وقال بعض متأخريهم بقدم كلام الآدميين وخرس الناس إذا رفع القرآن وتكفير أهل الرأي ولعن أبي فلان وقدم مداد المصحف‏.‏

الثاني‏:‏ قول قاله بعض علماء أصحابه وغلط فيه كقدم صوت العبد ورواية أحاديث ضعيفة يحتج فيها بالسنة في الصفات والقدر، والقرآن والفضائل، ونحو ذلك‏.‏

الثالث‏:‏ قول قاله الإمام فزيد عليه قدرا أو نوعا كتكفيره نوعا من أهل البدع كالجهمية فيجعل البدع نوعا واحدا حتى يدخل فيه المرجئة والقدرية أو ذمه لأصحاب الرأي بمخالفة الحديث والإرجاء فيخرج ذلك إلى التكفير واللعن أو رده لشهادة الداعية وروايته وغير الداعية في بعض البدع الغليظة فيعتقد رد خبرهم مطلقا مع نصوصه الصرائح بخلافه وكخروج من خرج في بعض الصفات إلى زيادة من التشبيه‏.‏ الرابع‏:‏ أن يفهم من كلامه ما لم يرده أو ينقل عنه ما لم يقله‏.‏

الخامس‏:‏ أن يجعل كلامه عاما أو مطلقا وليس كذلك ثم قد يكون في اللفظ إطلاق أو عموم فيكون لهم فيه بعض العذر وقد لا يكون كإطلاقه تكفير الجهمية الخلقية مع أنه مشروط بشروط انتفت فيمن ترحم عليه من الذين امتحنوه وهم رءوس الجهمية‏.‏

السادس‏:‏ أن يكون عنه في المسألة اختلاف فيتمسكون بالقول المرجوح‏.‏ السابع‏:‏ أن لا يكون قد قال أو نقل عنه ما يزيل شبهتهم مع كون لفظه محتملا لها‏.‏

الثامن‏:‏ أن يكون قوله مشتملا على خطأ‏.‏

فالوجوه الستة تبين من مذهبه نفسه أنهم خالفوه وهو الحق والسابع خالفوا الحق وإن لم يعرف مذهبه نفيا وإثباتا والثامن خالفوا الحق وإن وافقوا مذهبه‏.‏

فالقسمة ثلاثية، لأنهم إذا خالفوا الحق فإما أن يكونوا قد خالفوه أيضا أو وافقوه أو لم يوافقوه ولم يخالفوه لانتفاء قوله في ذلك وكذلك إذا وافقوا الحق فإما أن يوافقوه هو أو يخالفوه، أو ينتفي الأمران‏.‏

وأهل البدع في غير الحنبلية أكثر منهم في الحنبلية بوجوه كثيرة، لأن نصوص أحمد في تفاصيل السنة ونفي البدع أكثر من غيره بكثير فالمبتدعة المنتسبون إلى غيره إذا كانوا جهمية أو قدرية أو شيعة أو مرجئة، لم يكن ذلك مذهبا للإمام إلا في الإرجاء، فإنه قول أبي فلان وأما بعض التجهم فاختلف النقل عنه ولذلك اختلف أصحابه المنتسبون إليه ما بين سنية وجهمية، ذكور وإناث، مشبهة ومجسمة، لأن أصوله لا تنفي البدع وإن لم تثبتها‏.‏ وفي الحنبلية أيضا مبتدعة، وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر وبدعتهم غالبا في زيادة الإثبات في حق الله وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره، لأن أحمد كان مثبتا لما جاءت به السنة، منكرا على من خالفها مصيبا في غالب الأمور مختلفا عنه في البعض ومخالفا في البعض‏.‏

وأما بدعة غيرهم فقد تكون أشد من بدعة مبتدعهم في زيادة الإثبات والإنكار، وقد تكون في النفي وهو الأغلب كالجهمية، والقدرية، والمرجئة، والرافضة‏.‏

وأما زيادة الإنكار من غيرهم على المخالف من تكفير وتفسيق فكثير‏.‏ والقسم الثالث من البدع‏:‏ الخلو عن السنة نفيا وإثباتا وترك الأمر بها والنهي عن مخالفتها وهو كثير في المتفقهة والمتصوفة‏.‏

وقال رحمه الله تعالى‏:‏

 فصل

المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام، فإن اللفظ لا بد له من معنى ومن قال‏:‏ العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني فما أراد - والله أعلم - إلا المعاني الخارجة عن الذهن كالعطاء والمطر على أن قوله مرجوح فإذا حكم بحكم عام لمسمى من أمر أو نهي، أو خبر سلب أو إيجاب فهذا لا بد أن يستشعر ذلك المعنى العام والحكم عليه ولا يجب أن يتصور الأفراد من جهة تميز بعضها عن بعض بل قد لا يتصور ذلك إذا كانت مما لا ينحصر للبشر وإنما يتصورها ويحكم عليها من جهة المعنى العام المشترك بينها سواء كانت صيغة العموم اسم جمع، أو اسم واحد فإنه لا بد أن يعم الاسم تلك المسميات لفظا ومعنى فهو يحكم عليها باعتبار القدر المشترك العام بينها وقد يستحضر أحيانا بعض آحاد ذلك العام بخصوصه أو بعض الأنواع بخصوصه وقد يستحضر الجميع إن كان مما يحصر وقد لا يستحضر ذلك بل يكون عالما بالأفراد على وجه كلي جملة لا تفصيلا ثم إن ذلك الحكم يتخلف عن بعض تلك الآحاد لمعارض‏.‏

مثل أن يقول‏:‏ أعط لكل فقير درهما فإذا قيل له‏:‏ فإن كان كافرا أو عدوا فقد ينهى عن الإعطاء‏.‏

فهذا الذي أراد دخوله في العموم إما أن يريد دخوله بخصوصه، أو لمجرد شمول المعنى له من غير استشعار خصوصه، بحيث لم يقم به ما يمنع الدخول مع قيام المقتضي للدخول‏.‏

وأما الأول فقد أراد دخوله بعينه فهذا نظير ما ورد عليه اللفظ العام من السبب وهذا إحدى فوائد عطف الخاص على العام وهو‏:‏ ثبوت المعنى المشترك فيه من غير معارض وإن كان من فوائده أن يتبين دخوله بعموم المعنى المشترك‏:‏ وبخصوص المعنى المميز وإن لم يكن الحكم ثابتا للمشترك‏.‏

وأما الذي لم يرد دخوله في العموم‏:‏ فإما أن يكون حين التكلم بالعموم قد استشعر قيام المعارض فيه فذاك يمنعه عن أن يكون أراد دخوله في حكم المعنى العام مع قيام المقتضي فيه، وهو المعنى العام وإما أن يكون قد استشعر ذلك قبل التكلم بالعام وذهل وقت التكلم بالعموم عن دخوله وخروجه‏.‏

فالأول كالمخصص المقارن وهذا كالمخصص السابق وإما أن يستشعر ذلك المعنى بعد تكلمه بالعام مع علمه بأنه لا يريد بالعموم ما قام فيه ذلك المعارض فهنا قد يقال‏:‏ قد دخل في اللفظ العام من غير تخصيص واستشعار المانع من إرادته فيما بعد يكون نسخا، لأن المقتضي للدخول في الإرادة هو ثبوت ذلك المعنى فيه وهو حاصل‏.‏

وهذا المعنى إنما يصلح أن يكون مانعا من الإرادة إذا استشعر حين الخطاب، ولم يكن مستشعرا‏.‏

ومن قال هذا فقد يقول في استشعار المانع السابق‏:‏ لا يؤثر إلا إذا قارن بل إذا غفل وقت التعميم عن إخراج شيء دخل في الإرادة العامة كما دخل في استشعار المعنى العام، إذ التخصيص بيان ما لم يرد باللفظ العام وهذا الفرد قد أريد باللفظ العام، لأنه لا يشترط إرادته بخصوصه وإنما يراد إرادة القدر المشترك، وذاك حاصل‏.‏

وقد يقال‏:‏ بل هذا لم يرده بالاسم العام، لأنه إنما أراد بالاسم العام ما لم يقم فيه معارض وكل من الأمرين وإن كان لم يتصور المعارض مفصلا ذلك المعنى فمراده أن ذلك المعنى مقتض لإرادته لا موجب لثبوت الحكم فيه بمجرد ذلك المعنى من غير التفات إلى المعارض وإذا كان مراده أن ذلك المعنى مقتض‏:‏ فإذا عارض ما هو عنده مانع لم يكن قد أراده فمدار الأمر على أن ثبوت المعنى العام يقتضي ثبوت الإرادة في مراده إلا أن يزول عن بعضها أو ثبوت المقتضي لإرادة الأفراد والمقتضي يقتضي ثبوت الأفراد إذا لم يعارضه معارض‏.‏

وعلى هذا فلو لم يستشعر المعارض المانع، لكن إذا استشعره لعلم أنه لا يريده‏:‏ هل يقال‏:‏ لم يتناوله حكمه وإرادته من جهة المعنى وإن تناوله لفظه ومعنى لفظه العام ‏؟‏ قد يقال ذلك، فإنه أراد المعنى الكلي المشترك باعتبار معناه العام ولم يرد من الأفراد ما فيه معنى معارض لذلك المعنى العام راجحا عليه عنده ثم لا يكلف استشعار الموانع مطلقا في الأنواع والأشخاص لكثرتها ولو استشعر بعضها لم يحسن التعرض، لنفي كل مانع مانع منها، فإن الكلام فيه هجنة ولكنة، وطول ‏,‏ وعي فقد يتعسر أو يتعذر علم الموانع، أو بيانها، أو هما جميعا‏.‏

فهنا ما قام بالأفراد من الخصائص المعارضة مانع من إرادة المتكلم وإن كان لفظه ومعناه العام يشمل ذلك باعتبار القدر المشترك‏.‏

وعلى هذا فإذا كان ذلك المانع يحتمل أنه يكون عنده مانعا، ويحتمل ألا يكون فهل نحكم بدخوله لقيام المقتضي وانتفاء المخصص بالأصل، أو نقف فيه لأن المقتضي قائم والمعارض محتمل ‏؟‏ فيه نظر‏.‏ فإن لصاحب القول الثاني أن يقول‏:‏ هذا المانع يمنع أن يكون المقتضي مقتضيا مع قيام هذا المانع‏.‏ وللأول أن يقول‏:‏ بل اقتضاؤه ثابت والمانع مشكوك فيه والأظهر التوقف في إرادة المتكلم حينئذ‏.‏

 وقال شيخ الإسلام

فصل

‏[‏قاعدة‏]‏ الحسنات تعلل بعلتين‏:‏ إحداهما‏:‏ ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة‏.‏

والثانية‏:‏ ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة‏.‏ وكذلك السيئات تعلل بعلتين‏:‏

إحداهما‏:‏ ما تتضمنه من المفسدة والمضرة‏.‏

والثانية‏:‏ ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة‏.‏ مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، فبين الوجهين جميعا فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‏}‏ بيان لما تتضمنه من دفع المفاسد والمضار فإن النفس إذا قام بها ذكر الله ودعاؤه - لا سيما على وجه الخصوص - أكسبها ذلك صبغة صالحة تنهاها عن الفحشاء والمنكر كما يحسه الإنسان من نفسه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، فإن القلب يحصل له من الفرح والسرور وقرة العين ما يغنيه عن اللذات المكروهة ويحصل له من الخشية والتعظيم لله والمهابة‏.‏ وكل واحد من رجائه وخشيته ومحبته ناه ينهاه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ بيان لما فيها من المنفعة والمصلحة أي ذكر الله الذي فيها أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر فإن هذا هو المقصود لنفسه كما قال‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، والأول تابع فهذه المنفعة والمصلحة أعظم من دفع تلك المفسدة، ولهذا كان المؤمن الفاسق يئول أمره إلى الرحمة والمنافق المتعبد أمره صائر إلى الشقاء فإن الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها‏.‏ ومن ظن أن المعنى ولذكر الله أكبر من الصلاة فقد أخطأ، فإن الصلاة أفضل من الذكر المجرد بالنص والإجماع‏.‏ والصلاة ذكر الله لكنها ذكر على أكمل الوجوه فكيف يفضل ذكر الله المطلق على أفضل أنواعه ‏؟‏ ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بقيام الليل فإنه قربة إلى ربكم، ودأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات ومطردة لداعي الحسد‏)‏ فبين ما فيه من المصلحة بالقرب إلى الله وموافقة الصالحين ومن دفع المفسدة بالنهي عن المستقبل من السيئات، والتكفير للماضي منها وهو نظير الآية‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، فهذا دفع المؤذي ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، فهذا مصلحة وفضائل الأعمال وثوابها وفوائدها ومنافعها كثير في الكتاب والسنة من هذا النمط كقوله في الجهاد‏:‏ ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 12‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 13‏]‏، فبين ما فيه من دفع مفسدة الذنوب ومن حصول مصلحة الرحمة بالجنة فهذا في الآخرة وفي الدنيا النصر والفتح وهما أيضا دفع المضرة وحصول المنفعة ونظائره كثيرة‏.‏ وأما من السيئات فكقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏، فبين فيه العلتين‏:‏

إحداهما‏:‏ حصول مفسدة العداوة الظاهرة والبغضاء الباطنة والثانية‏:‏ المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة وهي ذكر الله والصلاة فيصد عن المأمور به إيجابا أو استحبابا‏.‏

وبهذا المعنى عللوا أيضا كراهة أنواع الميسر من الشطرنج ونحوه فإنه يورث هذه المفسدة ويصد عن المأمور به وكذلك الغناء فإنه يورث القلب نفاقا ويدعو إلى الزنى ويصد القلب عن ما أمر به من العلم النافع والعمل الصالح فيدعو إلى السيئات وينهى عن الحسنات مع أنه لا فائدة فيه والمستثنى منه عارضه ما أزال مفسدته كنظائره‏.‏

وكذلك البدع الاعتقادية والعملية، تتضمن ترك الحق المشروع الذي يصد عنه من الكلم الطيب والعمل الصالح إما بالشغل عنه وإما بالمناقضة وتتضمن أيضا حصول ما فيها من مفسدة الباطل اعتقادا وعملا‏.‏ وهذا باب واسع إذا تؤمل انفتح به كثير من معاني الدين‏.‏

وقال‏:‏ فصل قاعدة شرعية‏:‏ شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد، فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا، ولا مأمورا به فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كره وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن الله شرع دعاءه وذكره شرعا مطلقا عاما‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏، ونحو ذلك من النصوص فالاجتماع للدعاء والذكر في مكان معين، أو زمان معين، أو الاجتماع لذلك‏:‏ تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده لكن تتناوله، لما فيه من القدر المشترك فإن دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك كالذكر والدعاء يوم عرفة بعرفة، أو الذكر والدعاء المشروعين في الصلوات الخمس، والأعياد والجمع وطرفي النهار، وعند الطعام والمنام واللباس، ودخول المسجد والخروج منه، والأذان والتلبية وعلى الصفا والمروة ونحو ذلك صار ذلك الوصف الخاص مستحبا مشروعا استحبابا زائدا على الاستحباب العام المطلق‏.‏ وفي مثل هذا يعطف الخاص على العام، فإنه مشروع بالعموم والخصوص كصوم يوم الاثنين والخميس بالنسبة إلى عموم الصوم وإن دلت أدلة الشرع على كراهة ذلك كان مكروها مثل اتخاذ ما ليس بمسنون سنة دائمة، فإن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة كالأذان في العيدين والقنوت في الصلوات الخمس والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس أو البردين منها والتعريف المداوم عليه في الأمصار والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع، أو قراءة أو ذكر كل ليلة، ونحو ذلك، فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس‏.‏ وإن لم يكن في الخصوص أمر ولا نهي بقي على وصف الإطلاق كفعلها أحيانا على غير وجه المداومة مثل التعريف أحيانا كما فعلت الصحابة والاجتماع أحيانا لمن يقرأ لهم أو على ذكر أو دعاء، والجهر ببعض الأذكار في الصلاة كما جهر عمر بالاستفتاح وابن عباس بقراءة الفاتحة‏.‏ وكذلك الجهر بالبسملة أحيانا‏.‏ وبعض هذا القسم ملحق بالأول فيكون الخصوص مأمورا به كالقنوت في النوازل وبعضها ينفى مطلقا ففعل الطاعة المأمور بها مطلقا حسن وإيجاب ما ليس فيه سنة مكروه‏.‏ وهذه القاعدة إذا جمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هو البدع من العبادات التي يشرع جنسها من الصلاة والذكر والقراءة وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله أو محرمة كصوم يومي العيدين والصلاة في أوقات النهي كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة كالصلوات الخمس والسنن الرواتب‏.‏ ولهذا قد يقع من خلقه العبادة المطلقة والترغيب فيها في أن شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما قد يقع من خلقه العلم المجرد في النهي عن بعض المستحب أو ترك الترغيب‏.‏ ولهذا لما عاب الله على المشركين أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله‏.‏

وهذا كثير في المتصوفة من يصل ببدع الأمر لشرع الدين وفي المتفقهة من يصل ببدع التحريم إلى الكفر‏.‏

وقال ‏:‏

 فصل ‏[‏الإيجاب والتحريم‏]‏ قد يكون نعمة، وقد يكون عقوبة، وقد يكون محنة‏.‏ فالأول كإيجاب الإيمان والمعروف، وتحريم الكفر والمنكر وهو الذي أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فسماها آصارا وأغلالا والآصار في الإيجاب والأغلال في التحريم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ويشهد له قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فإن هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا والحرج‏:‏ الضيق فما أوجب الله ما يضيق، ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو‏:‏ الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ الآية‏.‏ ثم ذلك قد يكون بإنزال الخطاب وهذا لا يكون إلا في زمن الأنبياء وقد انقطع‏.‏ وقد يكون بإظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه، ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان اعتقادا مخطئا لأن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف‏.‏

فالتكليف الشرعي إما أن يكون باطنا وظاهرا، مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله‏.‏ وإما أن يكون ظاهرا، مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الإيجاب أو التحريم، إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر، إذ المجتهد المخطئ مصيب في الظاهر لما أمر به، وهو مطيع في ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضي وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله‏:‏ ‏{‏واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏، فأخبر أنه بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الإباحة‏.‏ كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه‏.‏ ولا يؤتى به يوم حله، أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا‏.‏ ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط نعمة وهذا كثير كقوله‏:‏ ‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 66‏]‏، وقد تقدم نظائرها‏.‏

وقال رحمه الله أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة قالوا‏:‏ لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص‏.‏ وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق فكيف يكلف العلم بها ‏؟‏ وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص بل بطرق أخر‏:‏ من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك‏.‏ وبإزاء هؤلاء قوم من المحدثة والفقهاء والعامة قد يحرمون النظر في دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه حتى ذوي المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الإعراض عن تفصيلها‏.‏ وهذا ليس بجيد أيضا، فإن العلم النافع مستحب وإنما يكره إذا كان كلاما بغير علم أو حيث يضر فإذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به وإن كان نافعا فهو مستحب فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحا ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحا‏.‏

وكذلك المسائل الفروعية‏:‏ من غالية المتكلمة والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد حتى على العامة وهذا ضعيف، لأنه لو كان طلب علمها واجبا على الأعيان فإنما يجب مع القدرة والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة‏.‏ وبإزائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها على جميع من بعد الأئمة‏:‏ علمائهم، وعوامهم‏.‏

ومن هؤلاء من يوجب التقليد بعد عصر أبي حنيفة ومالك مطلقا ثم هل يجب على كل واحد اتباع شخص معين من الأئمة يقلده في عزائمه ورخصه ‏؟‏ على وجهين‏.‏

وهذان الوجهان ذكرهما أصحاب أحمد والشافعي لكن هل يجب على العامي ذلك ‏؟‏ والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد‏.‏ فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد ‏؟‏ هذا فيه خلاف والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد‏:‏ إما لتكافؤ الأدلة وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد كما لو عجز عن الطهارة بالماء‏.‏ وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام فالعبرة بالقدرة والعجز وقد يكون الرجل قادرا في بعض عاجزا في بعض لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب فأما مسألة واحدة من فن فيبعد الاجتهاد فيها والله سبحانه أعلم‏.‏

وقال شيخ الإسلام

 فصل

وأما حلف كل واحد‏:‏ أن أفضل المذاهب مذهب فلان‏:‏ فهذا إن كان كل منهم يعتقد أن الأمر كما حلف عليه ففيها قولان‏:‏

أظهرهما‏:‏ لا يحنث واحد منهم‏.‏

والثاني‏:‏ يحنثون إلا واحدا منهم، فإن حنثه مشكوك فيه، يجوز أن يكون صادقا ويجوز كونهم سواء فيحنثون كلهم وإذا حنثوا إلا واحدا منهم وقد وقع الشك في عينه فهي كما لو قال أحد الزوجين‏:‏ إن كان غرابا فزوجته طالق وقال الآخر‏:‏ إن لم يكن غرابا فزوجته طالق وهذه فيها قولان في مذهب أحمد وغيره‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يقع بواحد منهما طلاق وهو مذهب الشافعي وغيره لكن يكف كل منهما عن وطء زوجته قيل‏:‏ حتما وقيل‏:‏ ردعا‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه يقع بأحدهما كما لو كان الحالف واحدا وأوقعه بإحدى زوجتيه وعلى هذا فهل تخرج المطلقة بالقرعة، أو يوقف الأمر ‏؟‏ على قولين أيضا في مذهب أحمد والوقف قول الشافعي‏.‏

والصحيح أن من حلف على شيء يعتقده كما لو حلف عليه فتبين بخلافه فلا طلاق عليه وأما مالك فإنه يحنث الجميع ولو تبين صدق الحالف، بناء على أصله فيمن حلف على ما لا يعلم صحته كما لو حلف أنه يدخل الجنة والنزاع فيها كالنزاع في أصل تلك المسألة‏.‏

وجمهور العلماء لا يوقعون الطلاق لأجل الشك ومالك يوقعه لعدم علم الحالف بما حلف عليه فهذه كما لو حلف واحد على ما لا يعلمه ولم يناقضه غيره مثل أن يحلف أن مذهب فلان أفضل وهو غير عالم بذلك‏.‏

 

وسئل‏:‏

عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد‏:‏ فهل ينكر عليه أم يهجر ‏؟‏ وكذلك من يعمل بأحد القولين ‏؟‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان في المسألة قولان‏:‏ فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم‏.‏

 

وسئل رضي الله عنه‏:‏

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل سئل إيش مذهبك ‏؟‏ فقال‏:‏ محمدي أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقيل لا‏:‏ ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ومن لا مذهب له فهو شيطان فقال‏:‏ إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده - رضي الله عنهم - ‏؟‏ فقيل له‏:‏ لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهما المصيب ‏؟‏ أفتونا مأجورين

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول وهؤلاء أولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور ويترك المحظور‏.‏ والله أعلم‏.‏

 

وسئل شيخ الإسلام‏:‏ عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها‏:‏ فهل يجوز له العمل بذلك المذهب ‏؟‏ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه ‏؟‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول‏:‏ أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم‏.‏ واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال غير واحد من الأئمة‏:‏ كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم، فقال أبو حنيفة‏:‏ هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضراوات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال‏:‏ رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت‏.‏

ومالك كان يقول‏:‏ إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه‏.‏

والشافعي كان يقول‏:‏ إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي‏.‏ وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال‏:‏ مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء‏.‏

والإمام أحمد كان يقول‏:‏ لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا‏.‏ وكان يقول‏:‏ من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال‏:‏ لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين‏)‏، ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا‏.‏ والتفقه في الدين‏:‏ معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية‏.‏

فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه‏.‏ وأما القادر على الاستدلال، فقيل‏:‏ يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل‏:‏ يجوز مطلقا وقيل‏:‏ يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال‏.‏

والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين‏:‏

إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر‏.‏

وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح‏.‏

وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال‏:‏ إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه‏.‏

أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول‏:‏ قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له‏:‏ قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم‏.‏

وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه - لا سيما إذا كان قد رواه أيضا - فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في ‏[‏رفع الملام عن الأئمة الأعلام‏]‏ نحو عشرين عذرا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول‏.‏

فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح، أو أن راويه مجهول ونحو ذلك، ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه‏:‏ فقد زال عذر ذلك في حق هذا ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل لبعض الأمصار، وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل‏:‏ لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال‏:‏ إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم، أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص‏.‏

وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد‏:‏ أنت أعلم أم الإمام الفلاني ‏؟‏ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولست أعلم من هذا ولا هذا ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة ‏[‏ كنسبة ‏]‏ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر‏:‏ فكذلك موارد النزاع بين الأئمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هذه وهذه سواء‏)‏‏.‏

وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له‏:‏ قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس‏:‏ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ‏؟‏‏.‏

وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر فتبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر عمر ‏؟‏ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس‏.‏

ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده‏.‏